سورة مريم - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)}.
يقول تعالى مخبرًا عن جواب أبي إبراهيم لولده إبراهيم فيما دعاه إليه أنه قال: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} يعني: إن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها، فانته عن سبها وشتمها وعيبها، فإنك إن لم تنته عن ذلك اقتصصتُ منك وشتمتك وسببتك، وهو قوله: {لأرْجُمَنَّكَ}، قاله ابن عباس، والسدي، وابن جريج، والضحاك، وغيرهم.
وقوله: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}: قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن إسحاق: يعني دهرًا.
وقال الحسن البصري: زمانًا طويلا.
وقال السدي: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} قال: أبدًا.
وقال علي بن أبي طلحة، والعوفي، عن ابن عباس: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} قال: سويًّا سالمًا، قبل أن تصيبك مني عقوبة.
وكذا قال الضحاك، وقتادة وعطية الجَدَلي وأبو مالك، وغيرهم، واختاره ابن جرير.
فعندها قال إبراهيم لأبيه: {سَلامٌ عَلَيْكَ} كما قال تعالى في صفة المؤمنين: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63] وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55].
ومعنى قول إبراهيم لأبيه: {سَلامٌ عَلَيْكَ} يعني: أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى، وذلك لحرمة الأبوة، {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} أي: ولكن سأسال الله تعالى فيك أن يهديك ويغفر ذنبك، {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} قال ابن عباس وغيره: لطيفًا، أي: في أن هداني لعبادته والإخلاص له.
وقال مجاهد وقتادة، وغيرهما: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} قال: وعَوّدَه الإجابة.
وقال السدي: الحفي: الذي يَهْتَم بأمره.
وقد استغفر إبراهيم لأبيه مدة طويلة، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق، عليهما السلام، في قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41].
وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام، وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك حتى أنزل الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} الآية [الممتحنة: 4]، يعني إلا في هذا القول، فلا تتأسوا به. ثم بين تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك، ورجع عنه، فقال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113، 114].
وقوله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي} أي: أجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله، {وَأَدْعُو رَبِّي} أي: وأعبد ربي وحده لا شريك له، {عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} وعسى هذه موجبة لا محالة، فإنه عليه السلام، سيد الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه سلم.


{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)}.
يقول: فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله، أبدله الله من هو خير منهم، ووهب له إسحاق ويعقوب، يعني ابنه وابن إسحاق، كما قال في الآية الأخرى: {وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72]، وقال: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71].
ولا خلاف أن إسحاق والد يعقوب، وهو نص القرآن في سورة البقرة: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133]. ولهذا إنما ذكر هاهنا إسحاق ويعقوب، أي: جعلنا له نسلا وعقبا أنبياء، أقر الله بهم عينه في حياته؛ ولهذا قال: {وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا}، فلو لم يكن يعقوب قد نُبئ في حياة إبراهيم، لما اقتصر عليه، ولذكر ولده يوسف، فإنه نبي أيضًا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته، حين سئل عن خير الناس، فقال: «يوسف نبي الله، ابن يعقوب نبي الله، ابن إسحاق نبي الله، ابن إبراهيم خليل الله» وفي اللفظ الآخر: «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسفُ بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم».
وقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا}: قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني الثناء الحسن.
وكذا قال السدي، ومالك بن أنس.
وقال ابن جرير: إنما قال: {عَلِيًّا}؛ لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.


{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)}.
لما ذكر تعالى إبراهيم الخليل وأثنى عليه، عطف بذكر الكليم، فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا} قرأ بعضهم بكسر اللام، من الإخلاص في العبادة.
قال الثوري، عن عبد العزيز بن رُفَيع، عن أبي لبابة قال: قال الحواريون: يا روح الله، أخبرنا عن المخلص لله. قال: الذي يعمل لله، لا يحب أن يحمده الناس.
وقرأ الآخرون بفتحها، بمعنى أنه كان مصطفى، كما قال تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف: 144].
{وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا}، جُمِع له بين الوصفين، فإنه كان من المرسلين الكبار أولي العزم الخمسة، وهم: نوح وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر الأنبياء أجمعين.
وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} أي: الجبل {الأيْمَنِ} أي: من جانبه الأيمن من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة، رآها تلوح فقصدها، فوجدها في جانب الطور الأيمن منه، عند شاطئ الوادي. فكلمه الله تعالى، ناداه وقربه وناجاه. قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا يحيى- هو القطان- حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} قال: أدني حتى سمع صريف القلم.
وهكذا قال مجاهد، وأبو العالية، وغيرهم. يعنون صريف القلم بكتابة التوراة.
وقال السدي: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} قال: أدخل في السماء فكلم، وعن مجاهد نحوه.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} قال: نجا بصدقه.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الجبار بن عاصم، حدثنا محمد بن سلمة الحراني، عن أبي الوصل، عن شهر بن حَوْشَب، عن عمرو بن معد يكرب قال: لما قرب الله موسى نجيًا بطور سيناء، قال: يا موسى، إذا خلقت لك قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وزوجة تعين على الخير، فلم أخزن عنك من الخير شيئًا، ومن أخزن عنه هذا فلم أفتح له من الخير شيئًا.
وقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} أي: وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه، فجعلناه نبيًّا، كما قال في الآية الأخرى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص: 34]، وقال: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 36]، وقال: {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء: 13، 14]؛ ولهذا قال بعض السلف: ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبيًّا، قال الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا}.
قال ابن جرير: حدثنا يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن داود، عن عكرمة قال: قال ابن عباس: قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا}، قال: كان هارون أكبر من موسى، ولكن أراد: وهب له نبوته.
وقد ذكره ابن أبي حاتم معلقًا، عن يعقوب وهو ابن إبراهيم الدورقي، به.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8